ترامب يعود- تحديات الديمقراطية، الشرق الأوسط، وأجندة أمريكا أولاً.

المؤلف: د. الخير عمر أحمد سليمان09.23.2025
ترامب يعود- تحديات الديمقراطية، الشرق الأوسط، وأجندة أمريكا أولاً.

لم يكن حتى أكثر المراقبين تفاؤلاً يتوقعون عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. يأتي هذا بالنظر إلى سيرته الذاتية المليئة بالقرارات الجدلية، بما في ذلك تعامله مع جائحة كورونا التي أودت بحياة ما يزيد عن 400 ألف أمريكي في بداية عام 2020، وهو رقم يفوق عدد ضحايا هجمات 11 سبتمبر وقصف بيرل هاربر مجتمعين.

إضافة إلى ذلك، يأتي تشكيكه المستمر في نزاهة العملية الديمقراطية، ورفضه الاعتراف بنتائج الانتخابات التي فاز بها جو بايدن، وتحريضه على اقتحام الكونغرس لعرقلة التصديق على النتائج، ليشكل تحديًا إضافيًا.

الأمر الأكثر إثارة للدهشة كان توجيه الاتهام له وإدانته في 34 تهمة، بالإضافة إلى تبنيه خطابًا شعبويًا عمّق الانقسامات المجتمعية الحادة داخل الولايات المتحدة، واتباعه سياسة خارجية تميل إلى الانعزالية.

في ضوء هذه الخلفية المعقدة، يسعى هذا المقال إلى استكشاف تداعيات عودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض في يناير 2025، وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات المحورية التالية:

  • ما هو تأثير عودة ترامب على مستقبل الديمقراطية الأمريكية؟
  • ما هي المحددات الرئيسية لسياسته الخارجية في منطقة الشرق الأوسط؟
  • كيف ستؤثر رئاسته على مستقبل حلف الناتو والحرب في أوكرانيا؟
  • إلى أي مدى سيؤثر شعار "أمريكا أولاً" على النظام الدولي وتوازنات القوى العالمية؟

مستقبل الديمقراطية الأميركية

يرى الكثيرون أن عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة تمثل تحديًا جسيمًا لمستقبل الديمقراطية الأمريكية. يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن الحفاظ على المؤسسات الديمقراطية القائمة خلال السنوات الأربع القادمة، دون تحقيق أي إنجازات أخرى، سيكون بمثابة نجاح باهر. هذا يعكس مدى ضعف الثقة لدى شريحة كبيرة من الشعب الأمريكي الذي لم ينتخب ترامب.

تنبع هذه المخاوف من نظرته المتحيزة للصحافة وحرية الإعلام، وتقليله من دور وسائل الإعلام في النظام الديمقراطي. بالإضافة إلى ذلك، تبرز رغبته في إصدار أوامر تنفيذية تسمح له بفصل موظفي الخدمة المدنية الذين يلتزمون بالقانون والدستور، ولا يطيعون أوامره بشكل أعمى.

من المعلوم أن موظفي الخدمة المدنية يقسمون اليمين للعمل بما يخدم المصلحة العامة، والالتزام بالقانون. الأوامر التنفيذية التي تعهد ترامب بإصدارها ستمنحه سلطة ترهيب المعارضين، من خلال ربط المساعدات الحكومية والعقود والتراخيص والمنح والإعفاءات الضريبية بإظهار الولاء الشخصي للرئيس.

يقدر عدد الموظفين المهددين بالفصل بموجب هذه الأوامر المحتملة بما لا يقل عن 50 ألف موظف، وهم الذين يطلق عليهم ترامب تسمية "الدولة العميقة". هناك ارتباط وثيق بين تصوراته تجاه المشهد الداخلي وتهديده للنظام الديمقراطي، وبين رؤيته للسياسة الخارجية وكيفية تعامله المحتمل مع العالم.

ترامب والشرق الأوسط

تتشكل محددات رؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب وسياسته المتوقعة في الشرق الأوسط من اعتبارات متنوعة، ولكن الأهم هو إدارته للسياسة الخارجية من منظور اقتصادي، وليس بالاعتماد على الاعتبارات الأمنية والدفاعية والجيوسياسية التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية السابقة.

ينظر ترامب للعلاقات الدولية من زاوية الربح والخسارة الاقتصادية، وليس استجابة لضرورات التنافس الدولي القائم على تعزيز النفوذ الأمني والعسكري. الدليل الأبرز على ذلك هو الدور الذي لعبه في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل قبل دخوله البيت الأبيض.

بغض النظر عن التحليلات التي تشير إلى أن نتنياهو وافق على نفس الاتفاق الذي عرضه عليه بايدن قبل خمسة أشهر، بهدف تصوير ترامب كشخصية قوية قادرة على فرض التسويات مقابل دعم أمريكي غير محدود لإسرائيل في جميع القضايا، خاصة قضية التوسع الجغرافي لتحقيق أمنها القومي.

وقد صرح في حملته الانتخابية بأن إسرائيل صغيرة جدًا في محيطها الجغرافي ويجب أن تتوسع، وهو ما يتوافق مع تصوراته الشعبوية التوسعية، ودعوته لضم كندا وغرينلاند التابعة للدنمارك. بينما يعتقد آخرون أن دعم ترامب وإصراره على توقيع الاتفاق في هذا الظرف يهدف إلى التضحية بنتنياهو واليمين الإسرائيلي، وإرساء مرحلة جديدة في الشرق الأوسط لا تحتمل أي حروب أو صراعات قد تؤثر سلبًا على المصالح الاقتصادية لإدارته.

في المقابل، اقتصرت مطالب حماس على خمسة بنود: انسحاب إسرائيل من القطاع، تبادل الأسرى الفلسطينيين بالمحتجزين الإسرائيليين، فتح المجال لدخول المساعدات الإنسانية، وقف إطلاق النار، والمباشرة في إعادة إعمار ما خلفته الحرب.

بعيدًا عن تحديد المنتصر والمهزوم، وعلى الرغم من الخسائر المادية والبشرية الفادحة التي تكبدها سكان غزة، فإن الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي من الحرب، والمتمثل في القضاء على المقاومة، لم يتحقق، لأن المقاومة، في نظر أصحابها، فكرة لا يمكن إخمادها.

من هنا، فإن دفع ترامب لتوقيع اتفاق ينهي الحرب في غزة قبل توليه منصبه يعتمد على رؤيته للشرق الأوسط، التي تقوم على بناء وتعزيز شبكة مصالح اقتصادية مع المنطقة. لا يمكنه تحقيق ذلك دون إقرار تسوية لوقف إطلاق النار.

بناءً على ذلك، من المتوقع أن تقوم إدارته بتوسيع نطاق ما يعرف بالاتفاق الإبراهيمي، بهدف إتمام عملية التطبيع الكامل بين إسرائيل ودول المنطقة. العامل الاقتصادي في هذا السياق يعتبر الأهم في تحديد سياسته الخارجية في الشرق الأوسط، مع احتمال الدخول في مواجهة مع إيران، التي يعتبرها تهديدًا أمنيًا لإسرائيل وبعض حلفائه في المنطقة.

مع ذلك، يبدو أن المواجهة مع إيران لن تتجاوز الإطار التكتيكي المحدود، والذي قد يشمل توجيه ضربات خاطفة مصحوبة بعقوبات اقتصادية صارمة.

بالتالي، فإن خيار المغامرة والدخول في صراع شامل مع إيران مستبعد، لأن ذلك قد يقوض دعائم المشروع الاقتصادي الهادف إلى دمج إسرائيل في المعادلة الاقتصادية والسياسية، ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير.

من المرجح ألا يشغل الاهتمام بالشرق الأوسط واشنطن عن التصدي لأكبر التحديات التي ستواجه الإدارة الجديدة، وفي مقدمتها الحرب الأوكرانية وعلاقتها بحلف الناتو.

الحرب الأوكرانية

يرى العديد من أنصار المدرسة الواقعية الهجومية، وعلى رأسهم أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر، أن المساهمة في إشعال الحرب في أوكرانيا هي أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها الولايات المتحدة.

النقطة الجوهرية التي يطرحها ميرشايمر هي أن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين يتحملون مسؤولية غزو روسيا لجارتها الشرقية، بسبب إصرارهم على دفع كييف نحو الحصول على عضوية الناتو، الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديدًا وجوديًا لها ولأمنها.

يعتقد كثيرون أن الإدارات الديمقراطية، بدءًا من أوباما وصولًا إلى بايدن، ساهمت في تعميق هذه الأزمة من خلال دعمها لسياسة توسيع حلف الناتو، وتقديم الدعم العسكري لأوكرانيا بهدف استنزاف روسيا.

يبدو أن الرئيس الجديد للبيت الأبيض يحمل تصورًا مغايرًا لمن سبقوه فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية-الروسية، وهو يتفق مع أنصار المدرسة الواقعية الهجومية في رفض الاستمرار فيما وصفوه بالمستنقع الأوكراني. لقد أعلن ترامب معارضته لهذه الحرب والإنفاق المالي المتزايد عليها، وتعهد خلال حملته الانتخابية بوقفها في غضون يوم واحد.

لكن الواقع معقد للغاية، ويتجاوز قدرة الإدارة الجديدة على إيجاد حلول سريعة. من أبرز العقبات الشروط التي وضعها فلاديمير بوتين قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وهي الاعتراف بضم الأراضي التي احتلتها روسيا، وإغلاق ملف انضمام أوكرانيا لحلف الناتو بشكل نهائي.

لا يملك ترامب الحق في التنازل عن الأراضي الأوكرانية، لأنها ملك للشعب الأوكراني. وإذا وافق فولوديمير زيلينسكي على شرط التنازل، فإن ذلك سيضع نهاية لمستقبله السياسي.

من جهة أخرى، فإن إغلاق ملف عضوية أوكرانيا في الناتو ليس من صلاحيات ترامب، على الرغم من أنه يمتلك أدوات للضغط على الحلف، مثل المساومة على رفع نسبة المساهمة في الميزانية الدفاعية. لقد طالب في ولايته الأولى برفع دول الحلف مساهمتها إلى 3% من الناتج القومي الإجمالي، والآن يطالب برفع النسبة إلى 5%، وهو أمر يبدو صعب المنال.

بناءً على ذلك، ستشهد الولاية الجديدة للرئيس الأمريكي انكماشًا في الدعم المقدم للحرب الأوكرانية، مع عدم القدرة على إنهائها بالسرعة التي وعد بها، بالإضافة إلى فتور في العلاقة مع الحلف. سيكون لهذين الأمرين تداعيات كبيرة على الأمن الأوروبي من جهة، وعلى قدرة كييف على الدفاع عن أراضيها بدون دعم أمريكي صريح، كما كان الحال في عهد إدارة بايدن من جهة أخرى.

تشير الترتيبات التي تم تأكيدها للقاء ترامب ببوتين خلال المائة يوم الأولى من ولاية الإدارة الأمريكية الجديدة، إلى أن الرجلين قد يحافظان على علاقة ودية على المستوى الشخصي، ولكن دون تحقيق اختراق ذي قيمة على صعيد وقف الحرب بما يرضي طرفي الصراع.

من المتوقع أن يؤدي فتور العلاقة بين واشنطن وبروكسل، وتراجع الدعم الأمريكي لأوكرانيا، إلى انعكاسات استراتيجية على طبيعة الأولويات والتحالفات وتوازنات القوى على الصعيدين الإقليمي والدولي. هذا يأتي في إطار معادلة توازنات القوى العالمية التي تشهد تنافسًا حادًا بين واشنطن وبكين، خاصة في ظل التحديات الاستراتيجية التي أفرزتها الحرب الأوكرانية الروسية، والتي يعتبر التقارب الروسي الصيني أحد أهم تداعياتها، وهو أمر لا يخدم مصالح الولايات المتحدة على المديين المتوسط والبعيد.

العلاقة مع الصين وتجدد دورة التنافس

تستند حالة التنافس والصراع بين واشنطن وبكين إلى أربعة عوامل رئيسية: التجارة، تايوان، المطالبات بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، والجهود الأمريكية المستمرة للحد من النفوذ الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. تجدر الإشارة إلى أن السياسة الأمريكية تجاه الصين لم تتغير على مدار عقود، منذ أن تبنى باراك أوباما سياسة التوجه نحو آسيا.

تنوعت الآليات التي استخدمتها الولايات المتحدة في إدارة هذا التنافس، بدءًا من رفع قيمة الرسوم الجمركية، وهو ما وعد ترامب بفعله كما فعل في ولايته الأولى، وصولًا إلى تعزيز التحالفات وتوسيع نطاقها مع دول المنطقة.

ينطلق تركيز ترامب على التجارة أكثر من غيرها من محاور التنافس مع الصين من مخاوف أمريكية حقيقية تعكسها الإحصاءات، حيث تعاني واشنطن من عجز تجاري كبير مع بكين.

في العام الماضي، بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة حوالي 401 مليار دولار، بينما بلغت قيمة الواردات الأمريكية من الصين 130 مليار دولار. من المتوقع أن تشهد ولاية ترامب الثانية تركيزًا أكبر على الصين ومحاصرتها اقتصاديًا، والعمل على احتوائها عسكريًا من خلال توسيع نطاق التحالفات التي تقودها أستراليا والهند واليابان.

يدعم هذا الافتراض اختيار السيناتور مارك روبيو، المعروف بمواقفه المتشددة تجاه الصين، وزيرًا للخارجية الأمريكية. صرح روبيو أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ قبل أسبوع قائلًا: "ستظل الصين تمثل التهديد الأكبر للازدهار الأمريكي في القرن الحادي والعشرين".

الملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن موقف ترامب من المنافسة الاقتصادية واضح، لكن موقفه من القضايا الأمنية، بما في ذلك الدفاع عن تايوان والضمانات المقدمة لحلفاء الولايات المتحدة العسكريين مثل الفلبين، لا يزال غامضًا.

في المقابل، تواصل الصين وتيرة التحديث العسكري، بهدف معلن هو التفوق على الولايات المتحدة وإخراجها من بحري الصين الشرقي والجنوبي، مع توسيع وتحديث ترسانتها النووية.

الخلاصة:

تمثل عودة ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة تحديًا على مستويين: الأول يتعلق بالسياسة الداخلية الأمريكية، والثاني يتعلق بالسياسة الخارجية وكيفية تعامل العالم مع توجهات الإدارة الجديدة.

على الصعيد الداخلي، يكمن التحدي الأكبر في الحفاظ على روح وسيادة القانون، وذلك من خلال الحرص الشديد على اختيار أصحاب الكفاءات، الذين يشكلون روح الديمقراطية الأمريكية وحماتها من المتسلطين. سيكون لذلك تداعيات كبيرة على مستقبل النظام الأمريكي، ولن يقتصر تأثيره على الداخل الأمريكي فقط، بل سيؤثر على قدرة أمريكا على قيادة العالم والمساهمة الإيجابية في حل قضاياه، وقد يؤدي إلى انهيار دورها المتراجع أصلًا.

أما على الصعيد الخارجي، فإن العالم على موعد مع رئيس لا يمتلك أي قيود سياسية تنظم حركته. ولايته الرئاسية الحالية تعد الأخيرة بالنسبة له، لذلك يتميز إيقاعه بدرجة عالية من البراغماتية السياسية التي لا تؤمن بالمثاليات. ينظر ترامب إلى أي أمر على صعيد السياسة الخارجية على أنه صفقة تجارية لا تحتمل المكسب لكلا الطرفين، بل يجب أن يكون هو الطرف الرابح دائمًا.

بناءً على ذلك، فإن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على نمط من السياسة يقوم على الابتزاز والاستغلال غير المعهودين من تاجر يسعى للحصول على أي سلعة في السوق بأبخس الأثمان، ودون أن يدفع فلسًا واحدًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة